نون .. واو .. ميم ف عسل التعويم

نون..واو..ميم.. في عسل التعويم

كنت جالسا إلى مكتبي في العمل عندما جاءني الساعي مهرولا وقرّب رأسه قائلا بصوت خفيض: سعادة المدير العام يطلبك في مكتبه حالا
خير؟ -
إن شاء الله خير؟ -
قمت مرتبكا وأخذت أعدل هندامي وأنا أهرول إلى الطابق الرابع الذي يقع به مكتب سعادة المدير والذي ستطأه قدماي لأول مرة في حياتي
فخلال سنوات عملي كان غاية ما سعدت به هو المثول في حضره رئيس القسم لسماع توبيخ أو تحمل تبعات خطأ أي من الزملاء, ذلك كوني قد عُينت بواسطة جارنا عم حامد وكان رحمه الله سائقا خاصا لأحد مدراء الهيئة السابقين, وتواضع واسطتك بين وساطات الزملاء إقرار ضمني بقبولك لتحمل كل أخطائهم.. ومضى العُمر تراقبهم يترقون ويكافئون وأنت قابع في ركنك المُهمل تمضغ مرارات الحياة
دلفت إلى مكتب رحيب يزدان بلوحات جميلة وتتناثر فيه شجيرات ملونة بين الأرائك الوثيرة الفخمة وفي الصدر مكتب رائع تجلس إليه فاتنة تستعصي حتى على أجمل خيالات أعزب مثلي شارف الخامسة والثلاثين
وقفت أمامها مرتبكا وبصوت متهدج قلت: ناجح مظلوم
نعم؟ -
قلت موضحاً: إسمي ناجح مظلوم موظف بقسم المحفوظات, لقد طلبني سعادة المدير
شملتني بنظرة مزدرية متعجبة ولكنها قالت: تفضل.. سعادة المدير طلب دخولك فور قدومك
دخلت إلى مكتب سعادته, لم أستطع أن أحول نظري لأرى أي شئ بالمكتب وتركز بصري على الرجل, كان يضع سيجارا ضخما بين شفتيه وقد أسند ظهره الي كرسيه وفي عينيه نظرة بلا معنى
قلت وأنا أكاد ارتجف فرقا: السلام عليكم
ألقى نظرة سريعة على ورقة أمامه ثم قال: أنت ناجح مظلوم؟
قلت بسرعة: في خدمة معاليك
زم شفتيه إستحقارا وقال: هل تقدمت بأي شكوي لصحيفة أو جهة إعلامية؟
ارتعدت فرائصي وهتفت: معاذ الله ومم أشتكي؟ أنا في خير حال تحت عطف معاليكم
قال: ولكن لدي خطاب هنا يطلب توجيه خطاب رسمي إليك لمقابلة مدير إدارة العلاقات العامة بوزارة الأعلام
أنا؟؟؟ -
قال: نعم.. وستجد الخطاب لدي السكرتيرة.. فقط أريد أن أنبهك لشئ هام.. كل ما ستقوله سيصلني فلدي أصدقائي هناك
وأشار بيده معلنا انتهاء المقابلة
خرجت من المكتب وتسلمت الخطاب من السكرتيرة المغناج, وأنا أودع عطرها الفواح بنفس حسيرة
*******
في اليوم التالي توجهت إلى مبنى وزارة الإعلام وأنا مثقل الرأس بعد ليلة قضيتها بين مختلف الهواجس والظنون, وصلت أخيرا إلى المكتب ودخلت وانا أشعر بدوار خفيف
بمجرد دخولي إلى المكتب وقف رجل يميل الي البدانة وذو وجه مرح وخرج من خلف مكتبه ليلتقيني بمنتصف المكتب وهو يصيح متهللاً: أهلا أهلا أهلا يا أبو النجاجيح أخيرا شفناك, ما هذا يا رجل تبخل حتى بمكالمة هاتفية؟
قلت وأنا في أشد الارتباك: الظاهر سعادتك هناك لبس في الموضوع, أنا ناجح مظلوم موظف صغير ولم يحصل لي شرف التعرف بسعادتك من قبل
قال: هاهاها.. ما أجمل تواضع العظماء, عموما ياسيدي أنا اسمي زكي واصل لكن أرجو أن تناديني ياأبو الزّيك
قلت: لو سمحت سعادتك أنا عاجز عن فهم الموضوع
قال: ياسيدي نحن نتابع مقالاتك المميزة على الانترنت.. أسلوبك أكثر من رائع
( ياللمصيبة كيف عرفوا شخصيتي )
قلت متلعثما و أنا أشعر بكارثة تكاد تحيق بي: سعادتك دا كلام فارغ وأنا ثقافتي متواضعة.. وأرجو أن حضرتك تسامحني لو كنت قلت أي شئ لا يعجبكم
قال: بالعكس تماما إحنا مبسوطين منك جدا, ولهذا طلبتك, الحقيقة البلد مقبلة على مشروع كبير جدا ونريد منك أن تتولي مسئولية المكتب الاعلامي للمشروع
قلت: أنا!! ولكن ياسيدي يوجد عشرات من مشاهير الصحفيين والكتاب ورؤساء التحرير لديكم وجميعهم محترفون في قلب أي كارثة تحيق بنا والتأكيد على أنها هدية رائعة من حكومتنا ويقنعوننا دائما بأن المشكلة في عقولنا الغبية البليدة
ضحك وقال: هاهاها دمك خفيف جدا, وهذا هو السبب الذي جعلنا نختارك.. لقد
دلت التحريات التي تقوم بها أجهزة الدولة أن كل هؤلاء الكتّاب فقدوا صلاحيتهم تماما فلم يعد أحد يقرأ لهم أساساً لكي يصدقهم أو يكذبهم, لذا فنحن في حاجة الى وجه جديد تماما وتحرياتنا تؤكد أنك الشخص المناسب
تساءلت: ولكن ما هو هذا المشروع؟
قال: المشروع يا سيدي هو التعويم
قلت: ماذا !!!؟ عفوا ياسيدي هل تسخر مني!! لقد تم تعويم العملة فعلا.. وأكد لنا الجميع أن هذا أروع قرار اتخذته أي حكومة على وجه الأرض, والجميع بانتظار أن يتخطى اقتصادنا اقتصاديات جميع الدول خلال شهر أو اثنين على الأكثر
قال ضاحكاً: هاهاها.. تعويم العملة كان بداية فقط.. الموضوع أكبر من ذلك
ُطرق الباب ودخل رجل طويل القامة تبدو على ملامحه الجدية الشديدة, ألقى تحية مقتضبة وتم التعارف بيننا على أنه المهندس فكري ذهني رئيس اللجنة العليا لمشاريع التعويم
بدأ المهندس فكري شرح مشروعه فقال: فكرة المشروع الأساسية تتلخص في تعويم العاصمة نفسها بالمياه بحيث تصبح شبيهة بمدينة فينيسيا الشهيرة
!!!!!
*******
قلت: ماذا!!!! سيدي هل تحاول السخرية مني؟
قال: على الإطلاق.. هذا المشروع ندرسه منذ سنوات وقد أنفقنا عليه الملايين ولم يبق سوي التنفيذ
( يا للمصيبة.. الرجل يتكلم بجدية كاملة )
قلت: دعني أصارحك.. ما تقوله ينافي أي منطق ومستحيل التنفيذ تماما
قال: بالعكس.. المشكلة أنكم محرومون من الخيال جميع الإنجازات البشرية بدأت بأفكار سخر منها الجميع
قلت: ياسيدي أنتم سوف تتسببون بإغراق البلد ولا يمكن أن يقبل عقلي هذه الفكرة
قال: وهل عقلك أفضل من عقول جميع الخبراء في البلد, أطلق لخيالك العنان التعويم سيحل جميع المشاكل العالقة في هذا البلد
قلت: كيف؟
أجابني: سوف نوفر الملايين التي ننفقها على إنشاء الطرق وصيانتها, لن تكون هناك مشكلة مواصلات كل شخص سيربط مركبه الصغير أمام البيت ويتنقل به, لن يكون هناك مشكلة تلوث, لن تكون هناك حوادث طرق يموت فيها الآلاف, سوف تصبح البلد قبلة السياحة العالمية فالجميع سيأتي ليشاهد هذه التجربة الفريدة, وكذلك سوف نحقق الأمن الغذائي للفقراء
تساءلت: الأمن الغذائي؟
أجاب: نعم.. سوف تتوالد الاسماك في المياه وبذلك تستطيع أي ربة منزل ان تجلس في شرفة منزلها ومعها صناره تصطاد بها بعض السمك لغذاء الاسرة أو عشائها.. سوف تكون أروع تجربة اكتفاء ذاتي في التاريخ
قلت: سيدي كل ما تقوله مستحيل تماما.. ستغرقون الآثار وجميع المناطق المنخفضة.. ثم من أين ستأتون بالمياه وكيف تحصرونها حول العاصمة فقط؟
قال: هناك لجان تم تشكيلها لبحث كل هذه المشكلات وتم رصد ميزانيات ضخمة جدا لها عن طريق القروض الدولية
قلت: قروض!!! هذه جريمة وتبديد لمقدرات الوطن
هنا تدخل أبو الزّيك وقال: يعني إيه؟ بترفض انك تساعدنا؟ بترفض المساهمة في هذا المشروع الرائع
قلت: رائع!!! يا سيدي أنا أرفض لا يمكن ان اشترك في هذا التخريف
على راحتك -
شكرا.. عن إذنكم -
لحظه واحدة من فضلك يا ابو النجاجيح -
ضغط أبو الزيك زراً أمامه وبعد لحظة دخل ظابط صارم الوجه ومعه 3 جنود, وبرقة شديدة قال لي: تفضل معانا
الى أين؟ -
قال ابو الزيك: أنت الان تعرف أحد أهم أسرار الدولة.. وح نستضيفك شوية لحد المشروع ما يخلص.. حتى لا تتسرب الاخبار وتسبقنا دولة أخرى لتنفيذ هذا المشروع العملاق
أخذت اصرخ واهدد وأطالب بحقوقي الدستورية لكن هذا لم يغيّر في الأمر شيئا
*******
بعد عدة ساعات كنت أقف أمام مأمور سجن حاول تفتكرني والذي لا أدري شيئا عن موقعه لاني نقلت اليه عن طريق طائرة صغيرة
سلمني ظابط ملابس لونها اصفر وقال: لا تتعب نفسك بالحديث مع الحراس.. كلهم من الصم والبكم
انا اريد محامي -
ابتسم الظابط وأخذني الحراس الي زنزانة ضخمة جدا تحتوي عددا مهولا من البشر, ذهلت تماما من كثرة العدد
اقترب مني رجل كبير في السن وقال: اهلا وسهلا ما اسمك؟
ناجح مظلوم -
وماهو مشروعك؟ -
قلت: نعم؟؟ مشروعى!!! لم أفهم
ألم تأتي هنا بسبب مشروع بانتظار التنفيذ؟ -
صحيح وكيف عرفت ذلك؟ -
أجابني: هذا السجن مخصص للمواطنين الذين يرتبط الإفراج عنهم بتنفيذ مشروع أو نجاح سياسة.. ولا يوجد هنا اي مجرم
سألته: هذا مذهل!! وما اسم حضرتك؟
سعيد بلاستيك -
بلاستيك؟ -
قال: أيوة.. انا كنت مهندس معماري وكان مطلوب أوافق على مشروع بناء العمارات من البلاستيك.. ولما رفضت جابوني هنا لحد ما يتنفذ المشروع
يا نهار إسود.. وبقالك كام سنة؟ -
قال: هههههه.. ياسيدي لا قيمة للزمن هنا.. لا يمكن ان تعرف او تحدد
زمناً.. الأيام تمضي بلا توقف وكلها متشابهة تماما وليس هناك اي وسيلة
اتصال بالعالم
قلت: هذا أمر لا يصدق.. أين السلطات المسئولة؟ أين القضاء؟ أين مجلس الشعب؟
ربما لا يدري احد عنا -
قلت: ولماذا لا يبلغ احد الذين يخرجون السلطات؟
قال: ههههههه.. ياسيدي لا احد يخرج من هنا.. فلم يحدث ان نجح اي مشروع او سياسه تبررّ خروج احد
*******
قدمني الرجل بعد ذلك على الزملاء.. وأخذ يعرفني عليهم
محسن ضرايب.. مشروع اختصار الضرائب الي 100 ضريبه فقط
علي بتلو.. مشروع انتاج اللحم البتلو من الكتاكيت
سيد تلفريك.. مشروع إلغاء المواصلات على الارض وجعلها في الهواء
عادل أهرامات.. مشروع طواف الأهرامات حول العالم في جوله سياحية
أيمن قشاش.. مشروع القطار الطائر بمراوح
*******
منذ ذلك اليوم اصبح إسمي: ناجح تعويم
اطمئنّوا ياأصدقائي.. سوف أخرج للحرية قريبا جدا فور وصول سعر الوروار الى نصف ملطوش
لا داعي للقلق..
*******